الموصل تحتضر في ظل سلطة (داعش)

المقاله تحت باب  قضايا
في 
02/01/2016 06:00 AM
GMT



انتهت الموصل، قبل الشروع في عملية تحريرها، إلى مدينة منهكة توشك أن تفقد مقومات بقائها. تشبه سجناً كبيراً على وشك أن يَقتل من فيه، حتى قبل إطلاق رصاصة واحدة، وعلى رغم أن تنظيم «داعش» يخدر الوضع بإجراءات شكلية.

الشهر الماضي، تجمع العشرات من سكان الموصل حول ساحة ينتشر فيها مسلحو تنظيم «داعش» يعرضون سيارات حديثة عليها آثار طلقات نارية. وكانوا يتجولون بين المسلحين لاختيار إحدى السيارات، ليبدأ التفاوض على ثمنها.

إحدى ساحات البيع الجديدة، كانت في ما مضى «جامع النبي شيت» الذي سوّي أرضاً بعد تفجيره بعبوات ناسفة في تموز (يوليو) ٢٠١٤.

ويُمكن سكان الموصل الآن أن يقتنوا السيارات الحديثة بأسعار زهيدة، تتراوح ما بين ٥٠٠ و٢٠٠٠ دولار، وليس على من يشتريها سوى إزالة أثار الطلقات النارية.

يقول أحد السكان: «بعد أن تشتري السيارة عليك أن تحصل على أوراق ثبوتية لها من مؤسسة إدارية تابعة لتنظيم داعش، بعد دفع الرسوم». وفي الحقيقة، فإن كل السيارات التي يبيعها التنظيم كان مسلحوه قد قاموا بالاستيلاء عليها أو مصادرتها.

حين ينفض تجمع بيع السيارات، فإن مواقع عرضها تتحول إلى مواقف «مرخّصة» من التنظيم الذي يشغلها لمصلحته، ويجبي المشرف على كل ساحة ما يعادل دولاراً واحداً عن كل سيارة يجري ركنها.

المدينة تتغير بشكل يكاد يكون جذرياً. تنظيم «داعش» يبتكر أدوات تمدده حتى مع تصاعد الحديث عن عملية عسكرية مرتقبة لتحرير المدينة التي يشعر السكان حيالها منذ سنة ونصف السنة باليأس.

الموصل التي كان يسكن فيها ما يقرب من مليون شخص تعاني الآن شح الموارد وقلة الوظائف وتزايد نطاق العقوبات القاسية والعلنية. كذلك، فإن التواصل بين سكان المدينة والعالم الخارجي أمسى في غاية الصعوبة ويحمل الكثير من الأخطار. ومن الصعب الحصول على معلومات دقيقة في شأن ما يجري حقاً في المدينة سوى ما تتيحه معلومات متضاربة إلى حدٍ ما من أفراد داخل المدينة أو نازحين يتواصلون مع ذويهم المحاصرين هناك. لكن، في الغالب، ثمة إجماع على أن الناس يشعرون باليأس، ولا يعرفون مصيرهم غداً. إن بيع السيارات التي استولى عليها «داعش» من عمليات مختلفة داخل وخارج الموصل، واحدة من منافذ إيرادات مالية للتنظيم تمكنه من البقاء وتشغيل اتباعه في مؤسسات إدارية وقتالية.

من بين تلك الموارد «الفدية»، حيث دأب التنظيم على اختطاف المواطنين، ومساومة ذويهم على الإفراج عنهم مقابل ملايين الدولارات. كما يحصل التنظيم على الموارد من السيطرة على المستشفيات ومراكز التسوق والمطاعم، ومرافق الكهرباء والمياه.

يحصل التنظيم كذلك على «هبات» من أتباعه الذي ينضمون إليه مقدمين له كل ما يملكون، خصوصاً أولئك القادمين من خارج الموصل التي اعتبرها المتشددون رمزياً نواة «الدولة الإسلامية» وربما عاصمتها، لكن أهم مصادر التمويل، بحسب معلومات مختلفة، هو عائدات تهريب النفط بأقل من السعر العالمي (الحصيلة اليومية بين 2 و4 ملايين دولار)، فضلاً عن الأسلحة والآثار والاتجار بالبشر.

ويمنح مشهد بيع السيارات بهذه الأسعار الانطباع بأن التنظيم يتقن تنويع وسائل حماية نفوذه والتوغل في تفاصيل مختلفة من حياة الناس. لكن في الحقيقة أن دائرة شراء تلك السيارات تبقى محدودة وضئيلة بسبب انهيار القدرة الشرائية للسكان.

تواصلت «الحياة» مع عدد من السكان المحليين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهم يتحدثون عن نوعين من الموصليين: الذين كانوا يتقاضون رواتب من الدولة بوصفهم عناصر في أجهزة الأمن وغيرها لا يستطيعون مقاومة متطلبات الحياة اليومية، في حين أن الأغنياء يستهلكون مدخراتهم ولا يخرجون من المنازل.

يقول أحد سكان حي وسط الموصل: «هناك من لم يخرج من منزله منذ سنة، وهو يعتمد على أقرباء وأصدقاء لتلبية حاجياته».

ثمة قصص مختلفة عما يقوم به التنظيم حيال الكساد الاقتصادي في الموصل، البعض يتحدث عن منح يقدمها داعش للأسر الموصلية الفقيرة تصل إلى ٥٠ دولاراً كل شهر، وثمة قصص عن أن المسلحين يشرفون على توزيع الرز والسكر، لكن روايات من شهود آخرين تصف هذا بـ»الكذب المحض».

ومهما يكن، فإن توقف سوق العمل، وانهيار قطاعات التعليم والصحة، وشح السيولة، تجعل الموصل مدينة منهكة قبل تحريرها.

 

ما الذي يفعله الموصليون؟

خلال الشهور الماضية، أُقفلت مصالحٌ خاصة، وأُغلقت دوائر ومؤسسات ومعامل من دون بوادر للعودة قريباً. الناس في بيوتهم يستهلكون ما تبقى من مؤن وأموال.

في المقابل، يقول أحد السكان المحليين، وهو كان شرطي مرور قبل حزيران (يونيو) ٢٠١٤: «المعدمون هنا مضطرون لتقديم طلبات الانضمام لداعش».

والحال، أن «داعش» لم يعد يوافق على طلبات الانضمام من السكان المحليين، إذ لديه شروط للموافقة على الملتحقين الجدد، وهم في الغالب سيعملون في وظائف إدارية لدى التنظيم.

يقول سكان تواصلت معهم «الحياة»، إن «التنظيم لا يثق إلا بالمراهقين دون الرابعة عشرة، ويعتقد أنه يضمن ولاءهم عبر تكوين شخصياتهم، في المقابل ثمة مخاوف من الشبان الذين تتراوح أعمارهم من ١٨ إلى ٤٠ سنة لاحتمال اتصالهم بجهات خارجية من بينها الحكومة العراقية، والتحالف الدولي».

في الآونة الأخيرة، غيّر قادة تنظيم «داعش» طريقة تحركاتهم الطبيعية في مدينة الموصل، وصار من المعتاد أن يدخل قائد في التنظيم إلى مطعم ما يأخذ حاجته ويتحرك مسرعاً، حيث سبق أن خسر التنظيم شخصيات مهمة لديه بسبب رصدهم من قبل التحالف الدولي خلال تجوالهم في شوارع المدينة.

لقد بدّل هؤلاء طريقتهم في التحرك، بما في ذلك التخلي عن السير ضمن موكب من عجلات التنظيم التي تضم المسلحين من حمايته، فيما لجأ عدد منهم إلى التنقل سيراً على الأقدام بين المدنيين.

اكتفى داعش بأعضائه الذين ضمن «تربيتهم»، لكن في الغالب فإن المجندين الذي انتموا إلى التنظيم في الموصل يعملون في مهمات إدارية أكثر من كونها قتالية. تقول التقديرات الأخيرة، إن الموصل تضم نحو ٥٠٠٠ مقاتل، رغم أن بعض السكان يتحدثون عن مبالغة في تقدير عدد المسلحين الذي يسيطرون على المدينة.

وفي شباط (فبراير) ٢٠١٥، أعلن مسؤول عسكري أميركي بارز أن هناك ما بين ألف إلى ألفي مسلحٍ من «داعش» في المدينة وأن استعادتها بحاجة إلى أكثر من 20 ألف عنصر من القوات العراقيّة.

وتقول شهادات مختلفة حصلت عليها «الحياة»، إن غالبية مسلحي تنظيم داعش هم من السكان المحليين، فيما تبقى قوة النخبة المقاتلة أقل عدداً وتضم عرباً وأجانب، وهم ينتقلون بين الرقة والموصل.

 

الهروب المستحيل

يبدو أن البقاء في الموصل والالتزام بضوابط العيش وفق شروط «داعش»، أقرب إلى المكوث في الجحيم «الناعم». ويفكر عديدون في المدينة بالفرار، لكن عليهم أن يجتازوا الشروط القاسية.

يقول أحد الذين فشلوا في ترك المدينة قبل أشهر عدة، إن التنظيم يمنع الشبان من مغادرة المدينة تحت أي ظرف أو مبرر، لكنه يسمح لكبار السن شرط ضمان عودتهم.

يتحدث أحد الموظفين المتقاعدين عن شروط مغادرة الموصل: «عليك أن تقدم طلباً لأحد دواوين تنظيم داعش تبلغهم بضرورة السفر خارج الموصل، ومن ثم يقوم أحد عناصر داعش بمقابلتك للاستفسار عن أسباب السفر». ويضيف: «قلت لهم إنني أرغب في السفر إلى بغداد لإجراء معاملة في دائرة التقاعد، طلبوا مني إحضار كفيل شاب، يرهن منزله وسيارته إن وجدت، لتذهب لجنة من التنظيم إلى منزل الكفيل للتحقق منه. إذا لم أعد إلى الموصل فإن التنظيم يعدم الكفيل ويصادر ممتلكاته».

وعلى المغادر أن يدفع رسوماً للتنظيم تصل إلى ١٠٠٠ دولار أميركي، فضلاً عن أجور نقل تصل إلى ٦٠٠ دولار تنقله إلى منطقة النخيب (شمال كربلاء)، مروراً بصحراء الأنبار. ووفق روايات عن استحالة الخروج من الموصل، فإن السكان عليهم التكيف مع فكرة العيش داخل سجن كبير يفقد تدريجاً مقومات الحياة.

ونزح ما يقرب من 500 ألف شخص من الموصل وضواحيها عقب سيطرة مسلحي التنظيم، بوقت قصير قبل أن يجري تطبيق «قواعد السفر».

 

ما الذي يريده الموصليون؟

جرى رسم صورة نمطية في وسائل إعلام محلية ومدونات في مواقع التواصل الاجتماعي، لسكان الموصل بوصفهم جميعاً موالين لتنظيم «داعش»، في حين قد تبدو التفاصيل على الأرض مختلفة، أو في أقل تقدير تعطي ملامح متضاربة تعكس تنوع المواقف من «داعش» في المدينة. فالسكان الذين تواصلت معهم «الحياة» يتحدثون عن مؤيدين للتنظيم، ومعارضين له لكنهم مضطرون للتعايش معه.

التنظيم يحصل على دعم من سكان أطراف مدينة الموصل، وعلى ما يقول سكان محليون فإن تلك المناطق كانت لفترات طويلة موطناً للتشدد الديني حتى قبل ظهور «داعش».

وفي شباط (فبراير) ٢٠١٥، أعلن «داعش» إنشاء ولاية «الجزيرة» التي تضم سنجار (سابقاً)، تلعفر، الحمدانية، القيروان، والعياضية، والبعاج. وكل هذه المناطق الحدودية في غالبيتها بعيدة عن مركز مدينة الموصل بتفاوت، لكن أهم ما يميزها أنها لم تهزم أبداً طوال معارك العراقيين ضد داعش.

يقول الباحث العراقي هشام الهاشمي: «يمكن اعتبار منطقة البعاج العاصمة السرية لتنظيم داعش (…) فهي محمية عسكرية له. البعاج والمناطق البعيدة عن مركز الموصل، ممر آمن لكل عمليات التنقل العسكري والتجاري للتنظيم»، وفي الحقيقة فإن هذه العمليات كونت شبكة مصالح لقبائل تقطن تلك المناطق.

يقول الهاشمي: «القبائل التي تعيش في تلك المناطق هي طاقة كامنة وسلاح مهم بيد داعش، ومن أبرزها: المتيوت والخواتنة، وغالبية أبنائهما هم أعضاء في داعش، خلافاً لقبيلتي العكيدات والحسون اللتين ينتمي نحو نصفهما إلى التنظيم، فيما هاجر البقية إلى تركيا أو إقليم كردستان».

لكن الحال مختلف كثيراً في مركز مدينة الموصل، حيث غالبية السكان هم من الأكاديميين وضباط الجيش وموظفي الدولة، فهؤلاء منعوا أبناءهم من الالتحاق بالدراسة لرفضهم المنهج التعليمي الذي فرضه «داعش». ويقول أحد السكان، إن المدارس متوقفة تماماً باستثناء تلك التي تستقبل طلبة ذويهم من عناصر التنظيم.

يلخص أحد السكان المحليين فكرة رفض التنظيم والاعتراض على سياسة بغداد بقوله: «إن ظلم بغداد جاء بهذه العاصفة (داعش)».